«1»
ترتبط المرأة بتاريخ البشرية ومكانتها فيما تتراوح بين التقدير والادانة ففي ثقافة الرافدين «السومرية والاشورية والبابلية» لم تحمل المرأة وزر الخطيئة الاولى لتوضع قيدا على مسارها، فالخروج عن النعيم كان اختبارا لقدرة الانسان «ذكر او إمرأة» اما اليهودية فما زالت تحمل «المرأة» ذنب الطرد من الفردوس الخالد. ويورد «وول ديورانت» ان الرجال في «فارس» كانوا لا يدعون الله ان يرزقهم «بنات» بل ان «الملائكة» لا تحسبهن من «النعم» التي انعم الله بها على بني الانسان، وكان الناس في ايام «دارا» يحتفون بولادة الذكور «لانهن لغير آبائهن يذهبن» وتذهب «ديانات» الهند ان المرأة خلقت من بقايا خلق الرجل، ولم يكن الكهنة بعيدين عن تقنين الزي والانحطاط الذي ما زالت تعاني منه المرأة في الهند ويكاد يتفق المؤرخون بقراءة صحيحة للقرائن ان المرأة في وادي النيل كانت محل التقدير والاعزاز بل انه في مرحلة من مراحل التطور التاريخي كانت الام وحدها هي التي تملك وترث ثم شاركها اخوها فيما بعد ولكن سيادة النظام الابوي، منعت ذلك لاحقا واكرمها القرآن بالتفاصيل والادلة المعروفة.
«2»
للمرأة في تاريخ السودان، اعزاز وتقدير بلا حدود، ففي كوش، كانت هي صاحبة الاستشارة والقرار، فالام الملكية والاخت الملكية، ذات حول وشأن ويكتب احد ملوك النوبة «سيجامون» لسلطان مصر، ان يفك اسر والدته واخواته فهن اللائي يدبرن الملك، ويرث «الملك» ابن الاخت، ويورد نعيم شقير. ص 52 انه اذا قصدت امرأة سيدا منهم، فكشفت عن رأسها وكشفت له بأمر، وجب عليه قضاء ذلك الامر.. مهما كلفه ذلك من المشقة والعناء والمرأة في الثقافة السودانية هي المعبر عن الدفاع عن سيادة الوطن في مواجهة الغزو، فقد رددت مهيرة بعد ان زغردت في مواجهة جيوش اسماعيل باباشا الغشيم قول لي جدادك كر وحرضت اخرى على القتال في مواجهة العنف.
غني وشكريه يا جدي الباحات بلال ود علي اسد الخلا القنات
وتحت الموت يجي الفوق السرير موات
مرحوم اليموت فوق كوكب الدرقات
والمرأة قلما تقابل «حماها» او تكلمه الا بعد الولادة، كما ان الزوج لا يقابل «حماته» ولا يكلمها الا بعد الزواج الا لبرهة وذلك من باب الحياء كما ان الزوج لا يأكل مع حميه او حماته احتراما، ويواصل شقير «ص 472»: اما حماته ويسمونها «النسيبة» فاحترامه لها فوق كل احترام واعظم قسم عنده هو الحلف بحماته فاذا قالوا لرجل نسيبتك تقضي لي حاجة وجب عليه القيام بذلك.. وكذلك اذا قالوا للمرأة.. نسيبتك والحمو والحماة يحبان صهرهما ويعاملانه كأحد ابنائهما ويبالغان في تقديره، وتضرب الامثال في ذلك السياق: النسيب قسة في العين. والثقافة السودانية بحكم ارث نوبي قديم تحتفي بابن الاخت فالولد يجد عند خاله كلما يجده ابناؤه وقالوا الولد خال.
ولان المرأة في الثقافة السودانية ذات الاصل النوبي هي سيدة الحمى، فان ديودروس كما نقل عنه شقير يورد «ص 823» كان اذا صدر امر الملك بقتل رجل فخيل له الفرار من «اثيوبيا» قيدته امه بنفسها بوثاق متين ومنعته من الفرار. حتى لا يجلب الفرار لها ولابيه ولنفسه ولقبيلته. وكان «التروقلوديته» يحترمون المسنات من النساء كل الاحترام حتى انهم اذا كانوا في اشد قتالهم ودخلت بينهم امرأة مسنة تركوا سلاحهم وكفوا عن القتال، ويبدو، احترام المرأة في الثقافة السودانية، بنسب كثير من الاولياء والملوك الى امهاتهم، وليس بعيدا عن ذلك التقدير، عدم جلب العار للاخوات: انا اخو البنات، وكثيرا ما قال صلاح احمد ابراهيم «رحمه الله» انا اخوك يا فاطمة، والمرأة بعد هي التي «تنشيء» اولادها: متين يا علي تكبر تشيل حملي... الخ... وهي التي تحرضه على ان يكون شجاعا ومقداما وليس «اضينة»: ما دايرة ليك الميتة ام رمادا شح
دايراك يوم لقا بدميك تتوشح «بنونة بت المك»
ولم ترض شغبة المرغومابية ان يظل ابنها حوارا ـ فنادت
يا حسين انا امك وات ماك ولدي «!!»
«3»
المرأة في الثقافة السودانية «راجع كتاب البروفيسور مختار عجوبة المرأة السودانية: ظلمات الماضي واشراقاته، وهو كتاب خطير اعود لتفاصيله فيما بعد، تشكل ذاكرة وقيم الشعب، وعلى ظلمها، في كثير من حقب التاريخ السوداني، الا ان النسيبة شكلت محورا اساسيا من محاور القيم ذات الاثر المباشر في تشكيل وجدان المجتمع وعلى ربط ذلك «بقيمة» الشجاعة المادية وقيمة الاحترام المعنوي، فان مؤسستها هي التي كانت معيارا للمواجهة. وقالوا:
حقوا لي قولي.. ولدا غيرك ما بحق قولي.. نسيبة البجري
وتقديرا للنسيبة ردد الفارس «ولعله جموعي»
الجري ماحقي.. حقي المشنقة والمدفع البي سكلي
وانها بعد ذلك حريص ان يعز بنات اهلوا
وقالت اخت لشقيقها وهو يخطو الى المشنقة وبعد ان زغردت: دايرة هدومك.. تجي نضيفه!!
والشبال يعد هدية محترمة لضرب السوط وقد اهتزت الصورة تماما، لم تعد المرأة كما لم تعد النسيبة قيمة اخلاقية عالية، فقد دهست المسلسلات الوافدة، ذلك المعنى الحقيقي لتجيء الحماة على نحو «قابض ومحزن» ولا يريد للزوجين سعادة واستقرار وهي فيما قال البعض صورة مقلوبة تستحق النظر والتعديل.
ـ لماذا تشوه صورة النسيبة من بعض «الأغاني» المنحطة، ان «العولمة» بآليات اتصالاتها الشرسة، تقصد الى تشويه وتدمير كل خصائص المجتمعات.
ويبدو ان الامر يستحق اكثر من «المقال» والسؤال موجه الى رائدات النشاط النسائي.. وإلى شباب العمل النسوي!
د.بركات موسى الحواتي